المادة    
يقول المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[والمشهور عند أهل النظر إثباته بدليل التمانع، وهو: أنه لو كَانَ للعالم صانعان فعند اختلافهما مثل أن يريد أحدهما تحريك جسم والآخر تسكينه، أو يريد أحدهما إحياءه والآخر إماتته- فإما أن يحصل مرادهما أو مراد أحدهما أو لا يحصل مراد واحد منهما، والأول ممتنع، لأنه يستلزم الجمع بين الضدين، والثالث ممتنع، لأنه يلزم خلو الجسم عن الحركة والسكون، وهو ممتنع، ويستلزم أيضاً عجز كل منهما، والعاجز لا يكون إلها، وإذا حصل مراد أحدهما دون الآخر، كَانَ هذا هو الإله القادر، والآخر عاجزاً لا يصلح للإلهية، وتمام الكلام عَلَى هذا الأصل معروف في موضعه، وكثير من أهل النظر يزعمون أن دليل التمانع هو معنى قوله تعالى: ((لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا))[الأنبياء:22] لاعتقادهم أن توحيد الربوبية الذي قرروه هو توحيد الإلهية الذي بينه القرآن، ودعت إليه الرسل عليهم السلام وليس الأمر كذلك،، بل التوحيد الذي دعت إليه الرسل، ونزلت به الكتب، هو توحيد الإلهية المتضمن توحيد الربوبية، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فإن الْمُشْرِكِينَ من العرب كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وأن خالق السموات والأرض واحد، كما أخبر تَعَالَى عنهم بقوله: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)) [لقمان:25]((قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ))[المؤمنون:84، 85] ومثل هذا كثير في القرآن، ولم يكونوا يعتقدون في الأصنام أنها مشاركة لله في خلق العالم، بل كَانَ حالهم فيها كحال أمثالهم من مشركي الأمم من الهند والترك والبربر وغيرهم، تارة يعتقدون أن هذه تماثيل قوم صالحين من الأَنْبِيَاء والصالحين، ويتخذونهم شفعاء، ويتوسلون بهم إِلَى الله، وهذا كَانَ أصل شرك العرب، قال تَعَالَى حكاية عن قوم نوح:((وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً))[نوح:23] وقد ثبت في صحيح البُخَارِيّ، وكتب التفسير، وقصص الأَنْبِيَاء وغيرها، عن ابن عباس رضي الله عنهماـ وغيره من السلف: أن هذه أسماء قوم صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا عَلَى قبورهم، ثُمَّ صوروا تماثيلهم، ثُمَّ طال عليهم الأمد فعبدوهم، وأن هذه الأصنام بعينها صارت إِلَى قبائل العرب، ذكرها ابن عباس ـرضي الله عنهماـ قبيلة قبيلة].إهـ
الشرح:-
ذكر المُصنِّفُ أن وجود الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- والاقرار بتوحيد الربوبية في الجملة أمر مجمع عليه، مفطورة عليه الخلائق، وذكر عجز المتكلمين وأصحاب النظر والاجتهاد العقلي، أو البحث الكلامي، وأنهم كلما جاؤوا بدليل وضعوه عَلَى وجود الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- جَاءَ الفلاسفة فأبطلوا عليهم هذا الدليل، فتناقض القول بذلك؛ لأن المتكلمين يضعون أدلة من جنس قواعد الفلاسفة - والفلاسفة أعلم بقواعدهم- فإذا وضعوا دليلاً من كلامهم هدمه أُولَئِكَ من قواعدهم وكلامهم.
فلذلك اضطر بعضهم أن يقول: إن وجود الله وتوحيد الربوبية، أمر ثابت بالسمع وبالوحي فقط، بحيث لو لم يرد به الوحي فإن العقول تعجز عن إثباته؛ لأنه ما من دليل تضعه العقول إلا وتأتي عقول أخرى تنقض هذا الدليل، وهذا الذي بلغ بهم حتى أن أقروا بذلك، فَقَالُوا: إن القضية قضية خبرية ووحيٌ، وهذا من تفريطهم وجهلهم،
وقد أوضحنا أن الله سبحانه وتعالى لما نزل هذا القرآن أنزل فيه أدلة برهانية، فهو أمر تسمعه، وخبر من عند الله تعتقده، وليس بنظريات فلسفية وإنما هو تنزيل من العزيز الحكيم سبحانه وتعالى ومع ذلك يشتمل على: البراهين القوية التي ليس في بابها أشد وأعظم إقناعاً منها، فذكر سبحانه تعالى الإيمان باليوم الآخر، وذكر صدق أنبيائه، بأقوى البراهين وأقوى الحجج، بل ويتحدى المشركين ويقول: ((قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ))[البقرة:111]،[النمل:64].
فمثلاً: قضية النبوة هي من أهم قضايا العقيدة، وقد ذكر لنا القُرْآن من الدلائل العظيمة عَلَى صدق الأَنْبِيَاء ما يذعن له كل أحد مهما قيل عن عقله، إلا أن يكون مكابراً معانداً، فإن العناد طبع وجبلة في أعداء الله المستكبرين، وما من نبي بعثه الله إلا وله أعداء.
((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً))[الفرقان:31] وكل نبي ينقسم قومه إِلَى فريقين:
1-الملأ الذين استكبروا وهم الطبقة العليا أصحاب المناصب.
2-والملأ الذين استضعفوا وهم الأتباع وحواشي الناس، وطبيعة الطبقة العليا -المستكبرين في الأرض- أنهم يحادون ويعاندون أي دعوة جديدة، وخاصة إذا كانت ناشئة من الطبقات الدنيا، الذين لا مال لهم ولاجاه عندهم، ولذلك قالوا: ((لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْآن آنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ))[الزخرف:31] لأن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس من أصحاب الثرآء، ولا من أصحاب الأموال، فيعترضون عَلَى الأَنْبِيَاء بهذه الاعتراضات.
فالاعتراضات قديمة من عهد نوح عَلَيْهِ السَّلام، كل نبي يعترض عليه باعتراضات قديمة، والأنبياء يأتون بالحجج والبراهين والآيات البينات، التي لا يملك أي بشر إلا أن يؤمن بنبوتهم، ومن ثُمَّ يؤمن بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حق، فإن أعتى طواغيت العالم -وهو فرعون- يتحدث عنه القُرْآن أنه يأتيهم هذا النبي وحده منفرداً، قد نشأ وتربى في بيته وفي رعايته، ولم يكن يدري أن له أباً ولا أماً ولا أحداً، وإنما هو لقيط، التقطه من البحر وربّاه، ثُمَّ يأتي ويقتل النفس ويهرب، ويقدر الله سبحانه أن يأتي هذا الذي تطالبه العدالة، وتبحث عنه لتقتص منه، وإذا به يدعي النبوة.
وجاء بدعوة جديدة غريبة، لا يطيق فرعون أن يسمعها ولا يأبه لها، فهل قال له موسى: القضية خبرية؟!
لا، إنما قَالَ: ((أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَادِقِينَ))[الشعراء:30،31] فأخرج يده فإذا هي بيضاء للناظرين، ووضع العصا فإذا هي حية تسعى، ثُمَّ تأتي المناظرة العظمي حيث أراد الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أن يفضح فرعون عَلَى الملأ مثل ما ادعى الربوبية عَلَى الملأ فشاور قومه، فأشاروا عليه فَقَالُوا: ((أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ))[الشعراء:36]، فالأمر بسيط جداً، ليس هناك أمة يجتمع لديها من السحرة أكثر من أمتنا، فليجمع السحرة جميعاً، وكانت حكمةً من الله، لأنه لو بقي أحد لقالوا: بقي سحرة، فجاء السحرة أجمعون، واحتاط فرعون بحيث لم يترك أحداً، وجاؤوا جميعاً ليتحدوا هذا الساحر بزعمهم: ((وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ))[الزخرف:49] فأمرهم موسى عَلَيْهِ السَّلام بإلقاء عصيهم، فلما ألقوها، خاف موسى عَلَيْهِ السَّلام، ولم يتوقع أن الله يوحي إليه، ولا أن يوجهه إِلَى هذا الطاغوت العنيد الجبار، ((فَأَلْقَى مُوسَى عَصاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ* فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ))[الأعراف:117،118] فأتى بآيات عظيمة لا يمكن لأحد أن يماري فيها، لا من السحرة ولا من الجمهور، ولا من الملأ المستكبرين في الأرض.
فتأتي هذه الحية فتلقف جميع الحيات، ويأتي السحرة الذين أتى بهم فرعون. وقَالَ: إن لكم لأجراً، ((فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ))[الشعراء:46-48].
فأي حجة أعظم من هذه الحجة، وأي فضيحة أخزى وأذل لأعداء الله من هذه الفضيحة، فكل نبي من الأَنْبِيَاء يأتي بآية ومعجزة وبرهان يدل عَلَى أن المسألة ليست مجرد وحي أو سماع فقط، وإنما الوحي نفسه يأتي بالأدلة والبراهين الجدلية، التي لا يقوى أي مجادل ولا مناظر أن يقف أمامها بإطلاق، وأقل الأَنْبِيَاء معجزة هو شعيب، وكل نبي من الأَنْبِيَاء يأتي بآية بينة -كما سَّماها الله سبحانه- ولو لم يأت بآيةٍ إلا أن يتحدى قومه بأن الله سبحانه سيعصمه وسيحميه من مكرهم ومن شرهم، فهذه معجزة عظمى، وآية بينة، لو تأملتها الأمم! كل ذلك بينات عَلَى صدق الأنبياء، ولم يقف أي مناظر ولا مجادل في وجه النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد جادله اليهود، ولما جَاءَ وفد نجران إلى المدينة وأخذوا يجادلون النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عليه صدر سورة "آل عمران" وقرأها عليهم وجادلهم بما فيها، وكذلك جادله المُشْرِكُونَ طويلاً وأكثروا الجدال، وكذلك أصحابه من بعده، ما وقف في وجههم أي مجادل ولا مناظر، بل كانت الحجة والبينة والبرهان الساطع بين أيديهم دائماً في كل موقف، ولهذا جعلهم الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هم الأعلون: الأعلون في الحجة والبيان، والأعلون في السيف والسنان، فعجز المتكلمون عن إثبات دليل عَلَى ربوبيته ‏هو عجز لهم، لأنهم رفضوا منهج القُرْآن -وهو اليقين- واتبعوا مناهج الفلاسفة واليونان المتقدمين، فأفحمهم أُولَئِكَ وعجزوا.

ودليل التمانع: قال بعض المتكلمين عنه: عندنا دليل عَلَى وجود الله، ولا يستطيع أحد أن ينقضه. فلو افترضنا أن للعالم إلهين متماثلين، فلا بد أن لكل منهما إرادة مستقلة عن الآخر، فتأتي لجسم من الأجسام أحدهما: يريد تحريكه، والآخر: يريد تسكينه، فإما أن تتحقق الإرادتان وهذا ممتنع، لأنه لا يمكن أن يكون الجسم الواحد متحرك وساكن في لحظة واحدة! وإما أن لا تتحقق الإرادتان معاً وهذا باطل، لأن الجسم لا يخلوا عن الحركة أو السكون وأيضاً إذا بطلت الإرادتان معاً، فهما عاجزان كلاهما، فلا بد أن تتحقق إرادة واحد منهما، ولا تتحقق إرادة الآخر، فالذي تتحقق إرادته: هو الإله الواحد، والآخر ليس بإله، فَقَالُوا: هذا دليل عقلي عَلَى إثبات وحدانية الله، وهذا غاية ما عند المتكلمين، وهو يبين لنا هزال المتكلمين وجهلهم بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وَقَالُوا: هذا الدليل العقلي جَاءَ به القرآن، وهم في الحقيقة أخذوه من علماء اليونان الذين كانوا يثبتون وجود الله بهذه الطريقة التي أغنانا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنها.
قالوا: والدليل عَلَى ذلك قول الله:((لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا))[الأنبياء:22] أي: لو كَانَ هناك أكثر من إله، لأراد هذا الإله أن يحرك السموات والأرض، والإله الآخر لا يريد أن تتحرك، فإما أن تتفق الإرادتان، وإما أن تتخلف الإرادتان، وإما أن تتحقق إرادة واحدة، والموجود في العالم اليوم هو إرادة إله واحد وهو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

وقد رد عليهم المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: بأن التوحيد الذي قرره الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في هذه الآية ليس هو توحيد الخلق توحيد الربوبية، وإنما المراد بالتوحيد هنا هو: توحيد الألوهية، وهو موضوع المعركة بين الأَنْبِيَاء والرسل وبين قومهم، فالذي جاءت به هذه الآيات أنه إذا عبد غير الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- حصل الفساد، لأن المعبود واحد.
فالمعبود في السماء واحد، وهو الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ولا فساد عَلَى الإطلاق في السماء، وإنما هنالك الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فننفي الفساد عنها، لأن المعبود في السماء واحد، والله تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: ((وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَه))[الزخرف:84] يعني: وهو الذي في السماء معبود وفي الأرض معبود، فأما في السماء فظاهر، وصلاح السماء ظاهر، بأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هو وحده المعبود فيها، كما قال صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع شبر إلا وفيها ملك ساجد أو راكع أو قائم} ولهذا انتفى عنهم الفساد، ولهذا قالوا: ((أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ))[البقرة:30]، ولذلك قَالَ: ((أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا))[الأنبياء:21،22] فالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ذكر أنهم اتخذوا آلهة في الأرض، وأما السماء فلأن الملائكة المقربين لم يعبدوا غير الله، ولم يتخذوا إلهاً غيره؛ فالصلاح فيها ظاهر، والصلاح ظاهر في المكان الذي يعبد فيه الله وحده في الأرض، وأما المكان الذي يعبد فيه مع الله غيره؛ فإن فيه أكبر الفساد وأعظمه وهو الشرك.
فعلم بذلك أن توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية متلازمان.

وأما من حيث أن نظام الكون لم يختل، لأنه من صنع إله واحد سبحانه ‏فهذا حق، لكنه ليس هو كل الحق، وإنما المراد ربط هذا الحق بالأهم وهو جانب الألوهية.
فإذا عبد الله -سجانه وتعالى- وحده لا شريك له، صلح الحال كله، لأنه هو وحده الذي يدبر نظام الكون، وأما من صادم ربه -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بعبادته غير الله فحينئذٍ يحصل الفساد في الأرض.
فالمؤمن يتآلف مع هذه المخلوقات جميعاً، لأنه يشعر أنها تعبد الله، والنجم والشجر يسجدان، كل شيء يسجد لله، ((وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُم))[الإسراء:44] ويقول النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أحد: {جبل يحبنا ونحبه}.
فهناك علاقة ومحبة بيننا وبين مخلوقات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فنحن نشعر بأن هناك ما يربطنا به، وهو: عبوديتنا جميعاً لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أما أعداء الله والمستكبرون فلا ينظرون إليها إلا نظرة العداوة، ولذلك اصطلحت أوروبا منذ عصر ما يسمى: "عصر النهضة" إِلَى اليوم عَلَى أن تسمي كل إنجاز أو اكتشاف علمي "قهراً للطبيعة" فإذا فتحوا طريقاً في الجبل، قالوا: قهرنا الطبيعة، وفتحنا هذا الطريق، فالمسألة مقاهرة ومغالبة ومعاندة، أما المؤمن فيثق أن الله تَعَالَى سخر له ذلك، فإن فعل شيئاً من هذا فإنه يقول: هذا من فضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا من تسخير الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فهذا هو توحيد الألوهية المتضمن لتوحيد الربوبية، والتوحيدان متلازمان.
  1. توحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية

    والتوحيد الذي جاءت به الأَنْبِيَاء هو: توحيد الألوهية، فكل ما جَاءَ في القُرْآن أو في دعوات الأَنْبِيَاء من بيان توحيد الربوبية، فهو ليبني عليه الإلزام بتوحيد الألوهية، وهكذا كانت العرب -كما ذكر المصنف- في الجاهلية يقرون بأن الله وحده لا شريك له، هو الإله الذي خلق السماوات والأرض، وهو الذي يدبر الأمر، ولكنهم اتخذوا من دونه آلهة أخرى لدعاوي عدة، إما أن هذه الآلهة تقربهم إِلَى الله تَعَالَى زلفى! فهو الإله الأكبر، وهذه الآلهة الصغرى واسطة بيننا وبين الإله الأكبر، كما كانوا يقولون في تلبيتهم: (لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك) ووقع الشرك في الأمم بسبب تعظيم غير الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وإن كَانَ المقصود به عبادة الله، فأي بشر إن قدسته وعظمته بما يعظم به الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فقد أشركت به مع الله، وإن كانت النية في الأصل سليمة.
    والله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- خلق الخلق عَلَى الحنيفية كما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في الحديث القدسى عن عياض بن حمار في صحيح مسلم: {وإني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين} فبقوا عَلَى الحنيفية عشرة قرون، كما ورد في تفسير ابن عباس عند قول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِين)) [البقرة:213] فتقدير الآية: كان الناس أمة واحدة على التوحيد فاختلفوا .
    وقبل أن يختلفوا لم يُبعث نبي وإنما كانوا يعبدون الله، حتى ظهر قوم نوح وظهر الشرك فيهم، فقد كَانَ في قوم نوح أناسٌ صالحون متبتلون متعبدون لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وذكر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً، وهم رجال صالحون- فلما مات هَؤُلاءِ القوم؛ جَاءَ الشيطان ولعب بعقول قومهم فقَالَ: هَؤُلاءِ النَّاس كانوا يعبدون الله ويذكرونكم بعبادة الله وهم أحياء، وهم اليوم أموات، فصوروا صورهم حتى تتذكروا عبادة الله، فتعبدون الله وتتقربون مثل ما كانوا يتقربون...فصوروا هذه الصور، وجعلوهم تماثيل، وأخذوا يتذكرون هَؤُلاءِ بوجود هذه الصور، ثُمَّ تناسخ العلم ومرت أجيال نست أن هَؤُلاءِ ليسوا معبودين، وأنهم إنما صوروا للتذكير فقط، فكانوا يرون آباءهم يأتون إِلَى هذه الصور، ويدعون الله بعدما يتذكرون الله ‏بهذه الصور، فأصبحوا يدعون هذه المعبودات من دون الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ثُمَّ جَاءَ نوح عَلَيْهِ السَّلام فوقع بينه وبين قومه ما وقع، وأغرقهم الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- جميعاً وأهلكهم ودمرهم، وما آمن معه إلا قليل، وعاد التوحيد مرة أخرى -وهو الأساس- في الأرض، وقضي عَلَى الشرك، وقطع دابر القوم الَّذِينَ كَفَرُوا، ولم يبق منهم ديار، كما دعا نوح عَلَيْهِ السَّلام، وعاد الأمر من جديد عَلَى التوحيد، ولكن الشيطان عاد من جديد، فأعاد الشرك وأعاد الأصنام، ولم يبعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا ووداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً يعبدن بأعيانهن، وهي التي كانت أيام نوح، في أمد لا يعلمه إلا الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ومع ذلك -ولأن الشيطان واحد- أعاد تلك الأصنام بأعيانها وبأسمائها، كما فسرها ابن عباس رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما في صحيح البُخَارِيّ، فكل قبيلة من العرب عبدت إلهاً من هذه الآلهة، الذي هو في الأصل اسم رجل صالح من قوم نوح، وقد سبق أن تحدثنا: كيف وقع الشرك في بلاد العرب؟، وقلنا إنه كَانَ بسبب الانبهار الحضاري، وأن عمرو بن لحي الخزاعي هو الذي أسس الشرك في جزيرة العرب بعد التوحيد، وغيّر ملة إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- وذهب إِلَى بلاد الشام، ورأى النَّاس يعبدون الأصنام هناك، فجاء إِلَى العرب بهذه التجارة الفاسدة، واستوردها وجعلها عند البيت الحرام الذي جعله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أول بيت وضع لكي لا يعبد إلا الله، فجاء عمرو بن لحي بالأصنام، ثُمَّ عبدت وبقيت قريش تتناقل ذلك، حتى بعث فيهم النبي الأمي دعوة إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلام- وهو مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    فلم يكن الشرك واقعاً في الربوبية، كما في توحيد الألوهية، وكان سبب وقوع الشرك هو: تعظيم غير الله -عَزَّ وَجَلَّ- وتقديسهم وخاصة الصور.
    ولذلك ذكر المُصنِّف -رحمه الله تعالى- الأحاديث الواردة في ذلك، وفي طمس الصور، وتسوية القبور، لأنها ذرائع إِلَى عبادة غير الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.